تتدفق على وسائل الإعلام ومواقع التواصل سيول من النصائح حول تطوير الذات: قرارات رأس السنة، روتينات الاستيقاظ في الخامسة صباحا. تبدو هذه العناوين إيجابية في ظاهرها، إذ تدعو الإنسان إلى تحسين نفسه والسعي نحو الأفضل، لكنها في عمقها تخفي وجهاً ساماً. فالسعي الدائم نحو الإنتاجية والكمال قد يحوّل رحلة النمو إلى سباق مرهق ينهك الجسد والعقل معاً. يعيش الشباب اليوم وسط عالم مشبع بعدم الأمان النفسي، حيث يفرض الإعلام ثقافة قاسية تدفعهم إلى مقارنة أنفسهم بصورة مستمرة، وكأنهم في منافسة لا تنتهي ليكونوا “أفضل” نسخ ممكنة من ذواتهم.
تشير الكاتبة كلارا إستان من مجلة ذا فينيكس الأيرلندية إلى أن المشكلة لا تكمن في تطوير الذات بحد ذاته، بل في تحوله إلى هوس. فبينما يستفيد بعض الناس من تبني عادات صحية حقيقية تقود إلى حياة أكثر توازناً، يقع آخرون في فخ ثقافة الإنتاجية الزائفة. يكفي البحث على يوتيوب عن عبارات مثل “تطوير الذات” أو “زيادة الإنتاجية” لتغمر الشاشة عناوين مثل: “كيف ترتقي بحياتك”، “عشر عادات ستغير حياتك”، “روتيني الصباحي في السادسة”. تبدو هذه المقاطع وكأنها مفاتيح للسعادة، لكنها غالباً تبسط الحياة وتوهم المتابعين أن التغيير الحقيقي يبدأ من حفنة خطوات شكلية. غير أن المشكلات الأعمق، مثل الشعور بالنقص أو الاغتراب الذاتي، لا تُحلّ بجدول زمني صارم أو فطور صحي.
العيش في عصر رقمي جعل من السهل الوقوع في فخ المقارنة. فالمستخدم يرى فقط أجمل لحظات الآخرين، صوراً مصفّاة بعناية، فيبدأ يخلط بين الواقع والمشهد المعد مسبقاً. هذه المشاهد المثالية تغذي وهم الكمال وتخلق سباقاً نحو حياة غير واقعية.
في هذا السياق، تتحدث صانعة المحتوى "لينيت أتكينز" في فيديو بعنوان "أنت لست مشروع تطوير ذاتك"، موضحة أن قيمة الإنسان لا تُقاس بمدى تغيّره، بل بقدر رضاه عن نفسه في اللحظة الراهنة. تقول إن محاولات التحسين المستمرة بدافع الشعور بعدم الكفاية تجعل الشخص يطارد سراب الكمال دون أن يدرك أن السعادة لا تنتظر عند نهاية هذا الطريق. الشباب، وهم الفئة الأكثر تعرضاً لهذه الرسائل الإعلامية، ينسون أن ما يُعرض عليهم ليس واقعاً بل نسخة منقّاة من حياة أشخاص يملكون بالفعل امتيازات تجعل الوصول إلى “النجاح” أسهل.
تزداد المشكلة حدة مع انتشار “ثقافة اللمعان” و”أن تكون تلك الفتاة”، وهي اتجاهات تصوّر النجاح كأنه مزيج من المظهر المثالي والجداول الصارمة. هذه الثقافة تخلق معايير يصعب تحقيقها وتغرس فكرة أن الإنسان لا يستحق الراحة إلا بعد أن يتحول إلى نسخة محسّنة من ذاته. والحقيقة أن من يعيش وفق هذه المعايير يجد نفسه في دوامة لا تنتهي من السعي غير المرضي، إذ يصبح الإنجاز نفسه وقوداً لمزيد من القلق.
تؤكد الكاتبة أن جوهر الأزمة يكمن في غياب الواقعية. فالحياة لا تتوقف عن تقديم الصعاب حتى بعد “التحول الكبير” أو “الروتين المثالي”. لا أحد يعيش من دون تحديات، مهما بدا حسابه على إنستاجرام متقناً. الفيديوهات التي تظهر دروساً في التنظيم الذاتي أو الإنتاجية لا تعرض الصراعات الداخلية أو المشاعر التي تسبق كل نجاح صغير. وبهذا المعنى، يغدو الإعلام مرآة مشوهة تَعِد الناس بحياة بلا ألم، بينما الحقيقة أكثر تعقيداً وتنوّعاً.
ترى إستان أن الحل يبدأ بالاعتراف بإنسانيتنا، بتقبل النقص والتقلب، والامتناع عن مطاردة الكمال الزائف. فالتطور الحقيقي لا يعني أن نصبح مختلفين تماماً، بل أن نتصالح مع ذواتنا كما هي، مع سعادتنا الصغيرة، ومع لحظات التوقف التي تمنحنا معنى الوجود. الإنسان يحتاج إلى الهدوء أكثر من الحاجة إلى المثالية، وإلى الصدق أكثر من “التطور”.
الرسالة التي تسعى الكاتبة إلى ترسيخها بسيطة وعميقة في آن: السعادة لا تُبنى بالمقارنة، بل بالرضا. لا فائدة من أن يركض المرء وراء حياة ليست حياته، لأن الجمال الحقيقي يكمن في ما بين أيدينا الآن. في عالم يطالبنا دوماً بأن نكون “أفضل”، ربما تكون الخطوة الأكثر ثورية أن نكون فقط، كما نحن.
https://fhsphoenix.org/the-toxic-side-of-self-improvement-in-media/